هل تأثر محمود درويش بالكاتب المسرحي الألماني (برتولد بريخت)؟ علماً بأن الأخير ليس شاعراً بالدرجة الأولى، مع أنه كتب الشعر. إنه كاتب مسرحي جدّد في المسرح وكانت له فيه آراء وتجديدات جعلته يقف في جانب مواز لأرسطو. وكل من يدرس المسرح أو يُدرسّه يدرس عن مسرح أرسطو وخصائصه، ويدرس في المقابل عن مسرح (بريخت)، وهو ما يعرف بالمسرح الملحمي الذي يتميز بما يعرف بالتغريب (Verfremdung).
غير أن كتابات (بريخت)، كما ذكرنا، لم تقتصر على كتابة النصوص المسرحية. لقد كتب اليوميات، وكتب القصائد القصيرة الساخرة يوم كان يقيم في المنفى إبان الحكم النازي؛ القصائد التي تعرف بفن الإبجرام، وكتب أيضا القصص القصيرة ذات الدلالات الرمزية، وله كتاب فيها عنوانه "قصص السيد كوينر"، وفوق هذا فله دراسات عن فن المسرح.
ولقد نعت (بريخت) بأنه غير مريح. أيام حياته قالوا عنه "المعاصر غير المريح"، "وقد ثار جدل واسع حوله، كما دارت فيه خصومة، وكان الخصام بسبب موقفه السياسي ومفهومه السياسي الذي انعكس في مسرحه وعمله السياسي، بخاصة في أيامه الأخيرة" (Margret Dietrich).
ولم يكتب محمود درويش المسرح حتى نقول إنه متأثر بمسرح (بريخت)، خلافا لما نذهب إليه حين ندرس مسرح سعد الله ونوس العربي السوري. ولا أدري إن كانت هناك دراسات أتت على تأثر درويش ببريخت. ثمة دراسات كثيرة أنجزت عن تأثره بشعراء عرب وغير عرب. مثلا تأثر درويش في ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" بالشاعر السوري نزار قباني، ولم ينكر هذا، فلقد أقرّ به في مقابلات عديدة. وتأثر درويش ب(ت.س. إليوت) و (لوركا) و(لويس أراغون) و(بابلو نيرودا)، وهذا ما تابعه دارسون وكتبوا فيه، وهذا ما أقرّ به درويش نفسه.
فهو يعرف أنه يمارس بوعي مسألة التناص أو الإحالات، إنها جزء أساسي من مشروعه، انطلاقا من أنه لا توجد كتابه تبدأ من الآن، فليست هناك أول كتابة، أو كتابة تبدأ من بياض. وليس هناك شاعر خال من عدة شعراء، وقد يكون أي شاعر هو كل الشعراء، "فالاستناد إلى محاورات هو جزء من عملية تقنية، وهو جزء أيضا من اعتراف الشاعر بأنه ليس فرديا لهذا الحد، فهو صوت الفرد ولكنه نتاج تراكم ثقافي" (انظر مجلة الشعراء (رام الله) العدد 4 و5، ربيع وصيف 1999، ص18).
والشاعر نتاج قراءاته، ولربما يتذكر قارئو الدراسات التي أنجزها بعض الدارسين العرب عن السياب ونازك الملائكة ما قام به د. عبد الواحد لؤلؤة، إذ عاد إلى مكتبة المعهد الذي درس فيه هذان، ونظر في الكتب التي استعاراها ليعرف لمن قرأا، وليأتي بالدليل، إن كان الشعر الإنجليزي مثلا عاملا من عوامل انبثاق قصيدة التفعيلة، وستنجز فيما بعد، دراسات عديدة عن تأثر السياب بشعراء وشاعرات إنجليز.
وفي مجلة الكرمل (عدد 86، شتاء 2006) يسأل عبده وازن محمود درويش عن الشعراء الذين يقرأهم الآن، فيعدد له درويش أبرزهم: (ريتسوس) و(أراغون)، ويقر بأن شاعره المفضل هو (نيرودا). ولما كان في فلسطين، قبل المغادرة في العام 1970، قرأ (لوركا) و (نيرودا) وتأثر بهما وخصوصا (لوركا) (ص36 و37).
واعتماداً على ما سبق، على ما قاله درويش في الشعراء، وفي الكرمل، فإن فهم درويش جيدا لا بد من أن يقوم على دراسة الشعراء الذين قرأهم، ونشير هنا أيضا إلى أنه قرأ الأدب العبري، وشكلت قراءته هذه مكونا من مكونات قصائده، ما حدا ببعض الدارسين إلى الإشارة إلى ذلك، بل وإنجاز رسائل أكاديمية في الموضوع. ومع ذلك فأظن ان هناك ما لم ينجز في هذا الباب، في أثناء دراسة درويش، وأظن أن أساتذة الأدب المقارن في جامعاتنا مقصرون، فهم لم يلتفتوا إلى باب مهم من أبواب دراسة أدبنا، ممثلا في قاريء للأدب العالمي ومتأثر به هو محمود درويش.
هل تأثر محمود درويش بـ(بريخت)؟
لا شك أن درويش قرأ (بريخت)، بل وكتب قصيدة في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) عنوانها: شهادة من برتولد بريخت أمام محكمة عسكرية 1967". وربما زار أيضا مسرحه في برلين الشرقية يوم زار هذه المدينة، إبان الحكم الشيوعي لها في الستينات والسبعينات والثمانينات، وشاهد ما عرض لبريخت من مسرحيات على مسرحه الذي شكل معلماً مهماً من معالم المدينة، وما زال حتى اللحظة أيضا، و(بريخت) مثل (هاينرش بول) احتفل به الألمان الشرقيون والغربيون على السواء، يوم كانت ألمانية تنقسم إلى شرقية وغربية، وطبعت أعمالهما هنا وهناك، بل ودرست في الجامعات هنا وهناك أيضا.
أنا شخصياً لم أقرأ دراسة أو مقالة عن تأثر الشاعر بالكاتب المسرحي، وإن كنت على يقين من أنه قرأه وقرأ من تأثر به- أي سعد الله ونوس. وربما لم يلفت نظري في المقابلات التي أجريت مع درويش أنه أتى على ذكر (بريخت) وتأثره به. ربما، فعلى الرغم من متابعتي لأكثر ما يكتبه الشاعر وما يجريه من مقابلات، مكتوبة ومرئية مسموعة على شاشة التلفاز، على الرغم من هذا فإن عبارة ما، أو جملة ما، أو سؤالا ما، عن علاقته به لم تثبت في الذاكرة، ذاكرتي. إذن من أين خطرت لي الفكرة، فكرة تأثر الشاعر بالكاتب المسرحي؟
يحتفل الألمان، في هذه الأيام، بالذكرى الخمسين لوفاة (بريخت). وأنا أتابع هذا من خلال فضائية ZDF- أي القناة الألمانية الثانية، وفي منتصف آب قدم مقدمو البرامج غير تقرير عن احتفالات الألمان بهذه المناسبة، بل وأثاروا في التقارير تساؤلات عن الكاتب، وأتوا على بعض آرائه، وذكروا أنه كان مفكراً، دون أن ينحازوا إليه انحيازاً أعمى، فهم يتساءلون إن كان على حق فيما كتبه وتبناه من مواقف، ولم أصغ إلى الإجابة ربما لأنني لم أتابع البرامج كلها التي قدمت عنه. عدا أنه، كما ذهبت ابتداءً، اعتمادا على دراسة (مارغريت ديترش) كان موضع خصام. كان له محبون وكارهون، وقد ثارت حوله خصومة. وهكذا سيكون هناك من يقول إنه كان على حق، وسيكون هناك من يقول إنه لم يكن على حق.
ما جعلني أتذكر محمود درويش وأنا أتابع ما يقدم من تقارير عن (بريخت) ما ورد عن سؤال (بريخت) نفسه حول علاقة النظام بالشعب. إذا لم ينتخب الشعب النظام، فعليه- أي النظام- أن يوجد شعبا ينتخبه- أن يستبدل الشعب بشعب آخر، لا أن يتنازل النظام عن الحكم لآخرين ينتخبهم الشعب، فالنظام المتسلط، النظام الديكتاتوري هو أكبر من الشعب، وبدلا من أن يلبي رغبات الشعب، ويحقق آماله وتطلعاته، على الشعب أن يلبي رغبات النظام، وأن يطيعه، فالنظام هو الأهم. وكم كان (بريخت) ساخراً! وربما لهذا اضطر أن يغادر بلاده إبان الحكم النازي، ليقيم في المنفى، وليكتب قصائد قصيرة ساخرة لاذعة، وليكتب"قصص السيد كوينر"، التي عبر فيها عن علاقة الشعب بالدكتاتور، حين يصمت الأول ولا يقول: لا. من الذي يجعل من الدكتاتور دكتاتورا يخدمه الجميع؟ لكن هذا سوف يترهل، لأن الآخرين يقومون على خدمته، سوف يتضخم لينهار أيضا، وليموت. هذه الفكرة، فكرة اختيار النظام لشعبه، بدلا من اختيار الشعب لنظامه، عبر عنها محمود درويش أيضا بسخرية لاذعة، تماما كما كان (بريخت) ساخراً. هل تذكرون خطب الدكتاتور الموزونة التي نشرها محمود درويش في أواسط الثمانينات في مجلة "اليوم السابع"، التي كانت تصدر في باريس. حقا إن درويش في رسائله لسميح القاسم التي نشرها أيضا على صفحات "اليوم السابع" قبل أن ينشرها إميل حبيبي في كتاب "الرسائل" أشار إلى ان قراءاته لأدب أمريكا اللاتينية هي ما أوحت له بكتابة الخطب، وأنه أراد فيها أن يسخر من الدكتاتور العربي، إلا أن بعض ما ورد فيها يذكر بمقولات (بريخت) آنفة الذكر.
في رسالة درويش إلى سميح بتاريخ 9/9/86 يكتب: " الدكتاتور يتلاعب بمصائرنا…. الدكتاتور يعيش في حياتنا، ويصوغ أسطورته التدريجية. هل خطر لحاكم أمريكي لاتيني أن يسلط صورته على القمر بالأشعة ليؤمن الناس بنبوءته عندما يرون وجهه طالعا من القمر، كما قد يفعل حاكم عربي، أفي وسعنا أن نواجه هذه الظواهر الساخرة بغير السخرية؟" (الرسائل، ص85).
وفي خطاب الجلوس يكتب درويش متقمصا شخصية الدكتاتور:
وكما ذكرت فقد كتب درويش في ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) قصيدة عنوانها "شهادة من برتولد بريخت أمام محكمة عسكرية 1967" ربما تحتاج إلى تحليل، بخاصة معرفة أنا المتكلم فيها، وما يقوله، فالديوان سيرة شعرية لدرويش، ولكن لا أظن ان الأنا في القصيدة هي أنا درويش الشاعر، إذ ربما تكون أنا جندي إسرائيلي يرفض الحرب التي رفضها أيضا (برتولد بريخت)، الحرب غير العادلة التي يرفضها أيضا الشاعر نفسه. إن القصيدة تستحضر العام 1967 وما جرى فيه- أي حرب حزيران- وما قام به الطيارون الإسرائيليون الذين يرفض أنا المتكلم سلوكهم، وإن كان هو أيضا عابرا بين العابرين، ولعلي أعود ذات نهار- إلى تحليل القصيدة والتوسع فيها.
عادل الأسطة
غير أن كتابات (بريخت)، كما ذكرنا، لم تقتصر على كتابة النصوص المسرحية. لقد كتب اليوميات، وكتب القصائد القصيرة الساخرة يوم كان يقيم في المنفى إبان الحكم النازي؛ القصائد التي تعرف بفن الإبجرام، وكتب أيضا القصص القصيرة ذات الدلالات الرمزية، وله كتاب فيها عنوانه "قصص السيد كوينر"، وفوق هذا فله دراسات عن فن المسرح.
ولقد نعت (بريخت) بأنه غير مريح. أيام حياته قالوا عنه "المعاصر غير المريح"، "وقد ثار جدل واسع حوله، كما دارت فيه خصومة، وكان الخصام بسبب موقفه السياسي ومفهومه السياسي الذي انعكس في مسرحه وعمله السياسي، بخاصة في أيامه الأخيرة" (Margret Dietrich).
ولم يكتب محمود درويش المسرح حتى نقول إنه متأثر بمسرح (بريخت)، خلافا لما نذهب إليه حين ندرس مسرح سعد الله ونوس العربي السوري. ولا أدري إن كانت هناك دراسات أتت على تأثر درويش ببريخت. ثمة دراسات كثيرة أنجزت عن تأثره بشعراء عرب وغير عرب. مثلا تأثر درويش في ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" بالشاعر السوري نزار قباني، ولم ينكر هذا، فلقد أقرّ به في مقابلات عديدة. وتأثر درويش ب(ت.س. إليوت) و (لوركا) و(لويس أراغون) و(بابلو نيرودا)، وهذا ما تابعه دارسون وكتبوا فيه، وهذا ما أقرّ به درويش نفسه.
فهو يعرف أنه يمارس بوعي مسألة التناص أو الإحالات، إنها جزء أساسي من مشروعه، انطلاقا من أنه لا توجد كتابه تبدأ من الآن، فليست هناك أول كتابة، أو كتابة تبدأ من بياض. وليس هناك شاعر خال من عدة شعراء، وقد يكون أي شاعر هو كل الشعراء، "فالاستناد إلى محاورات هو جزء من عملية تقنية، وهو جزء أيضا من اعتراف الشاعر بأنه ليس فرديا لهذا الحد، فهو صوت الفرد ولكنه نتاج تراكم ثقافي" (انظر مجلة الشعراء (رام الله) العدد 4 و5، ربيع وصيف 1999، ص18).
والشاعر نتاج قراءاته، ولربما يتذكر قارئو الدراسات التي أنجزها بعض الدارسين العرب عن السياب ونازك الملائكة ما قام به د. عبد الواحد لؤلؤة، إذ عاد إلى مكتبة المعهد الذي درس فيه هذان، ونظر في الكتب التي استعاراها ليعرف لمن قرأا، وليأتي بالدليل، إن كان الشعر الإنجليزي مثلا عاملا من عوامل انبثاق قصيدة التفعيلة، وستنجز فيما بعد، دراسات عديدة عن تأثر السياب بشعراء وشاعرات إنجليز.
وفي مجلة الكرمل (عدد 86، شتاء 2006) يسأل عبده وازن محمود درويش عن الشعراء الذين يقرأهم الآن، فيعدد له درويش أبرزهم: (ريتسوس) و(أراغون)، ويقر بأن شاعره المفضل هو (نيرودا). ولما كان في فلسطين، قبل المغادرة في العام 1970، قرأ (لوركا) و (نيرودا) وتأثر بهما وخصوصا (لوركا) (ص36 و37).
واعتماداً على ما سبق، على ما قاله درويش في الشعراء، وفي الكرمل، فإن فهم درويش جيدا لا بد من أن يقوم على دراسة الشعراء الذين قرأهم، ونشير هنا أيضا إلى أنه قرأ الأدب العبري، وشكلت قراءته هذه مكونا من مكونات قصائده، ما حدا ببعض الدارسين إلى الإشارة إلى ذلك، بل وإنجاز رسائل أكاديمية في الموضوع. ومع ذلك فأظن ان هناك ما لم ينجز في هذا الباب، في أثناء دراسة درويش، وأظن أن أساتذة الأدب المقارن في جامعاتنا مقصرون، فهم لم يلتفتوا إلى باب مهم من أبواب دراسة أدبنا، ممثلا في قاريء للأدب العالمي ومتأثر به هو محمود درويش.
هل تأثر محمود درويش بـ(بريخت)؟
لا شك أن درويش قرأ (بريخت)، بل وكتب قصيدة في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) عنوانها: شهادة من برتولد بريخت أمام محكمة عسكرية 1967". وربما زار أيضا مسرحه في برلين الشرقية يوم زار هذه المدينة، إبان الحكم الشيوعي لها في الستينات والسبعينات والثمانينات، وشاهد ما عرض لبريخت من مسرحيات على مسرحه الذي شكل معلماً مهماً من معالم المدينة، وما زال حتى اللحظة أيضا، و(بريخت) مثل (هاينرش بول) احتفل به الألمان الشرقيون والغربيون على السواء، يوم كانت ألمانية تنقسم إلى شرقية وغربية، وطبعت أعمالهما هنا وهناك، بل ودرست في الجامعات هنا وهناك أيضا.
أنا شخصياً لم أقرأ دراسة أو مقالة عن تأثر الشاعر بالكاتب المسرحي، وإن كنت على يقين من أنه قرأه وقرأ من تأثر به- أي سعد الله ونوس. وربما لم يلفت نظري في المقابلات التي أجريت مع درويش أنه أتى على ذكر (بريخت) وتأثره به. ربما، فعلى الرغم من متابعتي لأكثر ما يكتبه الشاعر وما يجريه من مقابلات، مكتوبة ومرئية مسموعة على شاشة التلفاز، على الرغم من هذا فإن عبارة ما، أو جملة ما، أو سؤالا ما، عن علاقته به لم تثبت في الذاكرة، ذاكرتي. إذن من أين خطرت لي الفكرة، فكرة تأثر الشاعر بالكاتب المسرحي؟
يحتفل الألمان، في هذه الأيام، بالذكرى الخمسين لوفاة (بريخت). وأنا أتابع هذا من خلال فضائية ZDF- أي القناة الألمانية الثانية، وفي منتصف آب قدم مقدمو البرامج غير تقرير عن احتفالات الألمان بهذه المناسبة، بل وأثاروا في التقارير تساؤلات عن الكاتب، وأتوا على بعض آرائه، وذكروا أنه كان مفكراً، دون أن ينحازوا إليه انحيازاً أعمى، فهم يتساءلون إن كان على حق فيما كتبه وتبناه من مواقف، ولم أصغ إلى الإجابة ربما لأنني لم أتابع البرامج كلها التي قدمت عنه. عدا أنه، كما ذهبت ابتداءً، اعتمادا على دراسة (مارغريت ديترش) كان موضع خصام. كان له محبون وكارهون، وقد ثارت حوله خصومة. وهكذا سيكون هناك من يقول إنه كان على حق، وسيكون هناك من يقول إنه لم يكن على حق.
ما جعلني أتذكر محمود درويش وأنا أتابع ما يقدم من تقارير عن (بريخت) ما ورد عن سؤال (بريخت) نفسه حول علاقة النظام بالشعب. إذا لم ينتخب الشعب النظام، فعليه- أي النظام- أن يوجد شعبا ينتخبه- أن يستبدل الشعب بشعب آخر، لا أن يتنازل النظام عن الحكم لآخرين ينتخبهم الشعب، فالنظام المتسلط، النظام الديكتاتوري هو أكبر من الشعب، وبدلا من أن يلبي رغبات الشعب، ويحقق آماله وتطلعاته، على الشعب أن يلبي رغبات النظام، وأن يطيعه، فالنظام هو الأهم. وكم كان (بريخت) ساخراً! وربما لهذا اضطر أن يغادر بلاده إبان الحكم النازي، ليقيم في المنفى، وليكتب قصائد قصيرة ساخرة لاذعة، وليكتب"قصص السيد كوينر"، التي عبر فيها عن علاقة الشعب بالدكتاتور، حين يصمت الأول ولا يقول: لا. من الذي يجعل من الدكتاتور دكتاتورا يخدمه الجميع؟ لكن هذا سوف يترهل، لأن الآخرين يقومون على خدمته، سوف يتضخم لينهار أيضا، وليموت. هذه الفكرة، فكرة اختيار النظام لشعبه، بدلا من اختيار الشعب لنظامه، عبر عنها محمود درويش أيضا بسخرية لاذعة، تماما كما كان (بريخت) ساخراً. هل تذكرون خطب الدكتاتور الموزونة التي نشرها محمود درويش في أواسط الثمانينات في مجلة "اليوم السابع"، التي كانت تصدر في باريس. حقا إن درويش في رسائله لسميح القاسم التي نشرها أيضا على صفحات "اليوم السابع" قبل أن ينشرها إميل حبيبي في كتاب "الرسائل" أشار إلى ان قراءاته لأدب أمريكا اللاتينية هي ما أوحت له بكتابة الخطب، وأنه أراد فيها أن يسخر من الدكتاتور العربي، إلا أن بعض ما ورد فيها يذكر بمقولات (بريخت) آنفة الذكر.
في رسالة درويش إلى سميح بتاريخ 9/9/86 يكتب: " الدكتاتور يتلاعب بمصائرنا…. الدكتاتور يعيش في حياتنا، ويصوغ أسطورته التدريجية. هل خطر لحاكم أمريكي لاتيني أن يسلط صورته على القمر بالأشعة ليؤمن الناس بنبوءته عندما يرون وجهه طالعا من القمر، كما قد يفعل حاكم عربي، أفي وسعنا أن نواجه هذه الظواهر الساخرة بغير السخرية؟" (الرسائل، ص85).
وفي خطاب الجلوس يكتب درويش متقمصا شخصية الدكتاتور:
هذه الأيام يحتفل الألمان بذكرى وفاة (بريخت) الخمسين، فقد توفي، هو المولود في العام 1898، في العام 1956، ولقد خطر السؤال على بالي وأنا أتابع فضائية ZDF. وكان (بريخت)، حين قال عبارته، ساخراً، ودرويش في خطابه ساخر أيضاً. حقا إن ما يحيط بلحظة الخطاب يقول لنا إن الشاعر كتبه بوحي من قراءاته لروايات كتاب أمريكا اللاتينية، مثل "السيد الرئيس" لـ(استورياس)، و"خريف البطريرك" لـ(ماركيز)، إلا أن فكرة اختيار الدكتاتور لشعبه وردت على لسان (بريخت)، فهل تأثر درويش بها؟"سأختار شعبيسأختار أفراد شعبيسأختاركم واحداً واحداً من سلالةأمي ومن مذهبيسأختاركم كي تكونوا جديرين بيإذن أوقفوا الآن تصفيقكم كيتكونوا جديرين بي وبحبي"ويتابع:" سأختار أفراد شعبيسأختاركم واحدً واحدأ مرة كلخمس سنينوانتم تزكونني مرة كل عشرينعاماً إذا لزم الأمر،أو مرة للأبد..………….قد اخترت شعبي واختارني الآنشعبي…فسيروا إلى خدمتي آمنين…أذنت لكم أن تخروا على قدميساجدين…فطوبى لكم… ثم طوبى لناأجمعين!
وكما ذكرت فقد كتب درويش في ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (1995) قصيدة عنوانها "شهادة من برتولد بريخت أمام محكمة عسكرية 1967" ربما تحتاج إلى تحليل، بخاصة معرفة أنا المتكلم فيها، وما يقوله، فالديوان سيرة شعرية لدرويش، ولكن لا أظن ان الأنا في القصيدة هي أنا درويش الشاعر، إذ ربما تكون أنا جندي إسرائيلي يرفض الحرب التي رفضها أيضا (برتولد بريخت)، الحرب غير العادلة التي يرفضها أيضا الشاعر نفسه. إن القصيدة تستحضر العام 1967 وما جرى فيه- أي حرب حزيران- وما قام به الطيارون الإسرائيليون الذين يرفض أنا المتكلم سلوكهم، وإن كان هو أيضا عابرا بين العابرين، ولعلي أعود ذات نهار- إلى تحليل القصيدة والتوسع فيها.
عادل الأسطة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق