الثلاثاء، 22 مارس 2011

قراءة في عالم بدر شاكر السيّاب الشعري

في مدينة البصرة ذات النسب الأدبي العريق التي أنجبت ( الأخفش - بشار بن برد - الجاحظ -ابن دريد - رابعة العدوية - سيبويه - الفرزدق - ابن المقفع ) وفي إحدى قراها - جيكور - ولد الشاعر في العام 1926 لأسرة متوسطة الحا
ماتت أمه وهو في سن السادسة ، وتزوّج أبوه فرعته جدته ، أتمَّ الشاعر دراسته الابتدائية في العام 1938 وأرسله جدّه إلى البصرة ليتابع تعليمه الثانوي ، اختار الشاعر الفرع العلمي برغم موهبته البارزة في اللغة والأدب العربيين ، وفي العام 1942 أنهى دراسته في الفرع المذكور ، وفي نفس العام تموت جدته وبفقدانها يفقد الشاعر صدراً حنوناً رعى طفولته ، وفي العام 1943 بدأ السيّاب رحلته في بغداد حيث كانت تصطرع التيارات الأدبية والسياسية ، وأصبح بدر شاكر السيّاب طالباً في دار المعلمين في بغداد ، وفي عام 1946 فُصل من دار المعلمين بسبب تحريضه الطلاب على الإضراب ، وفي حزيران من نفس العام كان السيّاب من بين الطلاب الذين اعتقلتهم السلطات لمشاركتهم في المظاهرات العنيفة ضد السياسة البريطانية في فلسطين ، وكان قبل ذلك قد منع التدريس لمدة عشر سنوات بسبب مواقفه السياسية ، عمل السيّاب بعد ذلك ذوّاقة للتمور في شركة التمور العراقية ثم في شركة نفط العراق بالبصرة ، ثمَّ انتقل إلى بغداد ليعمل مأموراً في مخزن شركة لتعبيد الطرق ، وعمل في الصحافة على فترات متقطعة ، ونتيجة الأحكام العرفية والإعتقالات الواسعة ، هرب الشاعر إلى الكويت 0 مما سبق ذكره ، يتبيّن لنا أنَّ الشاعر عاش في وسط اجتماعي فقير مادياً .. والمقصود بالمادة المصدر المالي الذي يؤمّن للشاعر الحياة الحرّة الكريمة ، ولقد كان الفقر غربة في أبعاده الأخرى ، غربة لامست فيه شغاف القلب ، وأمام هذه الجراح التي أحدثتها الأيام في نفس السيّاب ، نجده يرتد أبداً كرجل ، إلى المرأة ، كلما سكنه الخوف من الدنيا وتكالبت عليه مصائب الحياة ، إنها الحب الذي لا قبله ولا بعده ؟
الأسطورة في عالم السيّاب الشعري :
عبر هذه الملامسات الحارة للواقع الذي عاش فيه السيّاب ، لجأ إلى الأسطورة بسبب الحالة التي عاشها وظروفه الخاصة التي جعلته يؤمن بأنه واقعاً ماديا لا شعرياً ، وهذه القناعة كونتها تلك الظروف ، فراح يبحث عن بديل لملئ حالة الفراغ الروحي الذي يعاني منه ، هذا بالإضافة إلى المخزون الثقافي الرفيع الذي تميز به السيّاب مستقياً إياه من عدة مصادر سنأتي على ذكرها لاحقاً ، ( ووجد السيّاب أن ملاذه الوحيد هو العالم الأسطوري الذي يمكن أن يمده بطاقة سحرية تعوضه عن كل ما فقده) باعتبار الأسطورة فكراً إنسانياً بدائيا حمله السيّاب موقفاً خلافاً تبدى في فهمه للواقع المعاش و محاولة تغييره بأن أظهر ثغراته و تناقضاته وعلاقاته غير الحميمة ، بأن أظهر زيف المدينة التي يعها التضاد والتدهور والتطاحن ، وإن دل موقفه هذا على شئ فإنما يدل على فهم وانتباه عميقين و دقيقين لعملية توظيف الأسطورة ، هذه العملية التي لا تقوم إلا على وعي تام بجوهر رافدها الإنساني وأصبح السيّاب الرائد الأول في هذا المجال - حسب تقديري - . إن استخدام السيّاب للأساطير لم يكن هروباً من الواقع كما كان عند غيره ، بل لجأ السيّاب إليها كغاية لتحويل واقعه وتصويره عبر ذكريات البشر البدائية ، وليخفف عما به من معاناة نضيف إلى ذلك أن السيّاب بثقافته واطلاعه على الآداب المحلية العربية بكل عصورها ثم الأجنبية عبر اطلاعه ودرسه شعراء مثل ( بودلير ـ رامبو ـ ريكله ) تأثر بالمذهب الرمزي و الأسطورة مادة غنية بالرمز تغذي شعر الثر ، ولقد اعتمد الشاعر على أساطير العرب القدماء (بابلية ـ آشورية ) بالإضافة إلى الأساطير التي دونها قدماء اليونان وغيرهم كأسطورة أدونيس إله الخصب والنماء الذي يقضي نصفاً من السنة ـ الشتاء ـ في العالم السفلي مع برسفونة والنصف الآخر ـ الربيع ـ على الأرض مع فينوس آلهة الحب ، لنقرأ السيّاب : أزهار تموز ما أرعى أســـلمه في عتمة العالم السفلي إيـــاها أم صل حواء بالتفاح كافأنـــي وهو الذي أمس بالتفاح أغواها ومن الرموز التي وظفها السياب في شعر ـ العنقاء ـ ذلك الطائر الخرافي المعروف منذ الجاهلية : عنقاء في مسعر الجوزاء أعينها والصخر يرفض من أظلافها شبها وكذلك شخصية ـ أوديب ـ في الأسطورة اليونانية ، أوديب الذي تزوج أمه ـ جوكوست ـ وهو لا يدري بأنها أمه بعد أن قتل أباه ملك طيبة : من هؤلاء العابرون أحفاد أوديب الضرير و وارثوه المبصرون ... و ـ أفروديت ـ التي ولدت من زبد البحر ونزلت البر محمولة على صدفة المحار : مترقباً ميلاد " أفروديت " ليلاً أو نهارا أتريد من هذا الحطام الآدمي المستباح دفء الربيع وفرحة الحمل الغرير مع الصباح و ـ أبولو ـ إله الشمس الجبار الذي أحب ـ دفني ـ وطاردها محاولاً اغتصابها ، فاستنجدت بأبيها ، فرشها بحفنة من المال وأحالها إلى شجرة غار تضفر من أغصانها الأكاليل للأبطال: هي لن تموت سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت تعدو ويتبعها " أبولو" من جديد كالفضاء وكذلك ـ آتيس ـ إله الحب عند سكان آسيا الصغرى مما يدلل على غنى المصادر الأسطورية وتنوعها في شعر السياب الذي استخدم في شعره أيضاً رموز الطبيعة متوجاً إياها برمز المطر الذي عصف بأغلب بأغلب القصائد التي كتبها الشاعر بفترة من فترات إبداعه المتواصل وركز على هذا الرمز باعتباره رمزاً للحب والحياة وانتفاء الظلم وتحقيق العدل والمساواة ، نقرأ في قصيدة أنشودة المطر : أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر ؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟ وكيف يشعر الغريب فيه بالضياع ؟ بلا انتهاءٍ ـ كالدم المراق ، كالجياع كالحب ، كالأطفال ، كالموتى ـ هو المطر ؟ ومن المطر انبثق البرق والرعد كرمزين من رموز الثورة ، الثورة ضد الظلم : أكاد أسمع العراق يزخر الرعود ويخزن البروق في السهول والجبال حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال لم تترك الرياح من ثمود في الواد من أثر كذلك اتخذ السياب من ـ بابل ـ رمزاً للعراق ، عراق النخيل وجيكور وبويب : وسار صغار بابل يحملون سلال صبارٍ وفاكهةً من الفخار قرباناً لعشتار إن ثقافة الشاعر المسمدة من فهمه لواقعه و من دراسته للأدب العربي عموماً والإنكليزي التخصصي ، قد منحاه آفاقاً قلّما حلّق شاعرٌ آخرٌ فيها ، لقد مزج الكثير من الشعراء شعرهم بالأساطير لكن الأسطورة في عالم بدر شاكر السياب الشعري قد شحنت بطاقة جديدة ، إذ بثها السياب روح الواقع بمتناقضانه ومفارقاته ، فغدا الواقع المذكور مؤسطراً ـ إذ صح التعبير ـ للغلو الذي وشّى الحياة بشكل عام في الفترة التي عاش بها الشاعر في العراق ، أضفى على الأسطورة ـ مادية ـ قربتها من الواقع أكثر فأكثر ، هذه الجلية أضافت من خلال قصائد السياب عبقاً وسحراً وجمالاً ، قلما عهدناه في قصائد شاعر آخر .
السياب .. ورحلة الألم :
لن ننسى فترة الألم التي قضاها الشاعر متنقلاً بين المشافي والأسرّة ، حاملاً معه المرض الوبيل الذي أصابه ، فأتى على جسده شيئاً فشيئاً حتى أذابه ، إن الشلل قد تسلل إلى أعضائه ليمتها عضواً عضواً بعد أن عانى من آلام الفقر ، ولقد أنفق الشاعر ماله القليل في سبيل الشفاء، وتغرب عن وطنه وفارق زوجته وأطفاله مسافراً إلى أوربة لتلقي العلاج على نفقة بعض المسؤولين الذين أهداهم دواوينه الشعرية ، وفي هذه المرحلة تدخل قصائد الشاعر عالماً جديداً قوامه الشكوى والتذمر والأنين والتفجع على الحال التي وصل إليها جسده الضئيل المتعب ، ليتكئ على الأسطورة ، عارضاً آماله من جديد بالشفاء البعيد المنال لجسدٍ يذوب كالشمع تحت وطأة المرض ، فتتشح قصائده بالسواد وبالحزن القاتم : ويمضي بالأسى عامان ثم يهدني الداء تلاقفني الأسرّة بين مستشفى ومستشفى ويعلكني الحديد .
السياب .. رائد و مجدد :
رغم المرض والموت النفسي الذي قيد السياب في فترة قعوده الجسدي ، كان شاعرنا لا يزال يحلّق ويحلّق كرائد من رواد الحداثة في عالم الشعر العربي المعاصر ، وبدءاً من ديوانه الأول ـ أزهار ذابلة ـ الذي طبع عام 1948 بعد تخرجه من الكلية ، كان يجوب الآفاق بعزفه الفريد، وتشاء الأقدار أن يكون أمام شط العرب تمثال رائد الشعر العربي الحديث بدر شاكر السياب صاحب قصيدة ـ أنشودة المطر ـ التي خرج فيها على عروض الفراهيدي فكان من أبرز الشعراء العرب الذين حرروا القصيدة من أشكالها التقليدية الموروثة ، في مقابل تمثال ـ الخليل ابن أحمد الفراهيدي ـ مؤسس موسيقى الشعر ، والواقف في إحدى ساحات البصرة . إن كثرة الدراسات التي نطالعها عن السياب وشعره ، والدراسات الأخرى التي تتعرض لظاهرة الشعر العربي الحديث بكل تياراته التجديدية من التفعيلة حتى قصيدة النثر ، تؤكد أن مسألة الشعر الحديث لم تعد في مجال الجدل من حيث تأكيد الوجود أو عدمه .
السياب و النقد :
كان السياب رائداً من رواد الحداثة وقد تناول النقاد شعره بالإسهاب برغم الجدل الذي أثارته هذه المدرسة الجديدة الصاعدة ( وتبدو التفرقة بين مصطلحي ـ الحديث والمعاصر ـ أمراً ملحّاً في ضوء اضطراب مصطلح ـ الحداثة ـ وتغير دلالاته ، وإذا كان المعاصر مصطلحاً يعني الزمن ، فإن ـ الحديث ـ يعني الأسلوب والحساسية ، المعاصر محايد الإحالة ، في حين أن مصطلح الحديث يتضمن حكماً ووضعاً نقدياً ، ولعل من المفيد أن نذكر أن العمل قد يوصف بأنه حديث ولكنه بعيد عن عصرنا ، كما أن بعضاً من العمل المعاصر ليس حديثاً ) . ( بهذا المعنى لم يكن السياب بعيداً عن واقعه وعصره ، بل على العكس من ذلك التصق بواقعه التصاقا كبيراً واعياً وناقداً للظروف التي يعيشها الشاعر ويعيشها أبناء شعبه ، فكان صوتهم المدوي ضد الظلم والإجحاف ، لكن بدء تسلسل جسده إلى العالم الآخر أضفى على السنوات الأربع الأخيرة ـ فترة المرض ـ عالماً محموماً من البحث عن الشفاء و لو في الخيال فتلونت قصائده بتلك السوداوية القاتمة ، وقصائده التي ضمها ديوانه المميز ـ إقبال وشناشيل ابنة الجلبي ـ تشهد على ذلك ، لهذا السبب كان تركيز النقاد على السياب شاعراً مبدعاً ومفجراً لطاقات شعرية خلاقة جعلته في سنوات قليلة يغزو عالم الشعر ؟ فارساً مجدداً في الشكل والمضمون ، فكانت قصيدة الحداثة ، الوافد الجديد مع من بدء قبله أو بعده أم ممن عاصره إبداعيا ) . ( لقد كانت قصيدة السياب الحرة خارج العمود الشعري الصارم إيذاناً بالانتقال بالقصيدة العربية من الموسيقى المؤطرة إلى العالم الفسيح فكانت ـ أنشودة المطر ـ تاريخاً جديداً للشعر العربي المعاصر وبرغم التنوع الهائل في تناول الشعر السيابي من جوانب عديدة ومختلفة وعبر قراءات متجسدة ومستفيدة من أحدث مكتشفات الصوت فإن قصيدة ـ غريب على الخليج أصيحُ بالخليج يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى فيرجع الصدى كأنه النشيج هذه القصيدة تبقى الأسبق في الكتابة والإنشاء وفي منحى الذائقة الشعرية العربية الحديثة ، إن قصيدة السياب لم تتكرس إلا بعد سنوات طويلة وبعد ما نشر في الدفاع عنها شعراء و متذوقون للشعر وطليعيون مجهولون ).
أهمية تجربة السيّاب الشعرية :
( إن التغيرات التي حدثت في شكل و مضمون القصيدة كانت انعكاساً لتغيرات جذرية حصلت في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإنسان العربي لذلك يجب النظر للقصيدة الحديثة كونها وبشكل مركز لمدى تفاعل مبدعها مع مجمل الظروف الراهنة ) . وشاعر مثل بدر شاكر السياب عاصر وعايش هذه الظروف لحظة بلحظة بادئاً بمحيطه الأسري من وفاة أمه إلى وفاة جدته إلى التغيرات التي عصفت بالعراق والعالم العربي وصولاً إلى ـ النيرفانا , نهاية الألم ـ حيث تمدد جسد السياب بلا حراك بعد أن أصيب بالشلل لتدخل القصيدة عنده عالماً آخراً ، سبق ذكره . وتنبع الحداثة فيها لغة وأسلوباً عن طريق الجمع بين الشكل و المادة واعتبارهما شيئاً تام الأجزاء . لقد التصق السياب أحاسيس ومشاعر بأرض ـ جيكور ـ قريته التي أدخلها ـ مكانياً وزمانياً ـ عالم الشعر وبالتالي التاريخ ، ليرتبط اسم جيكور باسم السياب كلما لفظ اسمه أو اسم قريته الصغيرة الوادعة وقد أصبحت في نسيج قصائده الشعرية ، كذلك التصق بهموم وأحلام وطموحات أبناء الشعب العراقي والعربي عموماً ، منطلقاً في بعض الأحيان من ذاتية مشبعة بالألم نتيجة وضعه الصحي وأحياناً أخرى من عوالم استقى منها السياب مادة أولية لصياغة القصيدة الشعرية عنده كالأساطير وثقافته الإنكليزية خصوصاً والأوربية عموماً ولم ينته هذا النزف الشعري الذي استمر لعدة عقود من الزمن إلا مع توقف نبضه بعد أن جف الزيت في عروقه .
ـ النهايات ـ رحلة الألم :
من مستشفيات بيروت حيث بدأت مأساة الرحيل بحثاً عن الترياق إلى لندن إلى باريس إلى العراق إلى المستشفى الأميري في الكويت ، سلسلة من الآلام الطويلة بدأت عام 1961 إلى آخر عام 1964 و الشاعر المريض يعاني مرارة الألم ومعها مرارة الفقر وفي 24ـ12ـ1964 جاء الموت ينثر جسمه أباديد كما أراد ولكن ليكتب اسمه بعد ذلك بين أعظم شعراء الألم ، وعند دفنه حضر أربعة فقط ؟ ـ إقبال زوجته وابنه غيلان وشقيق زوجته وصديقه الشاعر الكويتي علي السبتي ـ عائداً إلى عالم الأبدية السرمدي ، غائباً بجسده حاضراً بشعره وفي كل كلمة خطتها يده ، واقفاً من جديد على ضفة شط العرب تمثالاً يستمع إلى مناجاة صديقه الشاعر محمد الماغوط :
أيها التعس في حياته وموته قبرك البطيء كالسلحفاة لن يبلغ الجنة أبداً الجنة للعدائين و راكبي الدراجات .
كمال عبدالله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق